سعيد ناشيد يكتب : هل الصراع بين الفلسفة و اللاهوت طريق طبيعية و بديهية؟

هل الصراع بين الفلسفة واللاهوت طريق طبيعية وبديهية؟ ظهر في الغرب، بحسب إلياس مرقص، أن الفلسفة المعادية للاهوت والميتافيزيقا ليست فلسفة بل هي إلغاء للفلسفة. والعرب ضائعون بين الموقفين: فلسفة دينية تلجم الفكر، ووضعانية علماوية تلجم بدورها الفكر وتلغي الفلسفة باسم الفلسفة”. ما رأيك؟ (مجلة ميسلون).

في مدينة القدس/ أورشلم ظهرت الأديان التوحيدية، ومعها ظهرت المفاهيم الأساسية للديانات الإبراهيمية (الخلق، الخطيئة، النبوة، الوحي، القيامة)، وفي مدينة أثينا ظهرت الفلسفة، ومعها المفاهيم الأساسية للعقل الإنساني (المنطق، المنهج، الحكمة، الوجود، الطبيعة). بلغة الفيلسوف الأمريكي ليو شتراوس فقد شكلت المدينتان خطان متوازيان في تاريخ البشرية، خط الروح وخط العقل، أو بلغة الخطاب القرآني، خط الكتاب وخط الحكمة.

كيف تعاملت الفلسفة مع التجربة الدينية؟

هناك ثلاث استنتاجات أساسية :

الاستنتاج الأول أن الفلسفة تعاملت مع التجربة الدينية للشعوب بمزيج من التواضع الأخلاقي والحس النقدي، بمعنى احترام معتقدات الشعوب دون التنازل عن واجب النقد، وهو النموذج الذي كرسه سقراط منذ البداية. مثلا، منذ السطرين الأولين من كتاب الجمهورية لأفلاطون، يقوم سقراط أثناء زيارة أحد المواسم الدينية، بواجب العبادة قبل أن يذهب إلى الفرجة الاحتفالية التي يحبها كثيرًا كما يقول، ثم يمضي إلى محاوراته في تقويض المسلمات، والتي تمثل محور نشاطه في التنوير العمومي.

الاستنتاج الثاني أن الفلسفة ساعدت الفكر الديني على تطوير مفاهيمه الأساسية بنحو لا يخلو من حس عقلاني. مثلا، لدى فلاسفة مثل سينيكا، ولايبنتز، وروسو، وسيمون فايل، نجد التأسيس الفعلي والبرهاني لمفهوم العناية الإلهية أكثر مما نجده في كتب اللاهوتيين كافة. مثال آخر، في حضارتنا الإسلامية لم يجد الفقهاء للاستدلال على وجود الله أفضل من استدلال ابن رشد، فيما يسمى بدليل الصنعة. والأمر نفسه تكرر في الغرب فيما سُمي بدليل الفكرة مع ديكارت، ودليل الإمكان مع لايبنتز.

الاستنتاج الثالث أن الفلسفة لعبت دورًا أساسيا في الإصلاح الديني، لغاية أن تتحول التجربة الدينية من عائق أمام العلم والمعرفة والحرية إلى عامل من عوامل النمو والبناء والتنمية. هنا نفهم جهد سبينوزا في محاولة إعادة توجيه اللاهوت من خطاب داعم للانفعالات الحزينة إلى خطاب داعم للانفعالات المبهجة. لهذا التوجه جذور في التجربة السقراطية / الأفلاطونية نفسها، فقد كان سقراط يوصي باستبعاد القصص الأخروية التي تنمي مشاعر الخوف والفزع لدى الناشئين، وتجعلهم عديمي المروءة في النهاية.

اليوم يستعمل كثير من الفلاسفة مفهوم “الرّوحانيات العلمانية”، على رأسهم لوك فيري، أندريه كومت سبونفيل، ومشيل لونوار، في المقابل يحاول آخرون مثل مشيل سير رد الاعتبار لتجربة العشق الإلهي في الخبرات الدينية، وكلهم في ذلك يواصلون السير على خطى “عذراء الفلسفة”، الآنسة سيمون فايل.

الخاصية الأساسية للتعامل الفلسفي مع التجربة الدينية، هي التواضع أمام الخبرة الدينية للشعوب دون التفريط في الحس النقدي، مع العمل على إعادة صياغة المفاهيم الأساسية لخطاب الأديان بقدر الإمكان، وبما يلبي حاجة الإنسان، أكان مؤمنا أم غير مؤمن، إلى أن ينمو بفرح، يكبُر بفرح، ويعيش بفرح. وهذا أعزّ ما يُطلب في كل الأحوال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock