سعيد ناشيد يكتب : رسائل في الخداع الشرعي

اللباس الشرعي ! السياحة الشرعية ! المايوه الشرعي ! العلاقة الشرعية ! الرقية الشرعية ! السياسة الشرعية ! النكاح الشرعي ! الخلوة الشرعية ! المدارس الشرعية ! البنوك الشرعية ! الرقص الشرعي ! بل قل، الخداع الشرعي، والسلام !
ما الحاجة إلى ذلك؟
إنّ ما يحدث في مستوى رغبات الفرد “المحظورة” هو الذي يحدث في مستوى الرغبات الجماعية للمجتمع والحضارة، حيث يستطيع اللّاوعي الجمعي التحايل على الرقابة الدينية، عبر اللجوء إلى أقنعة تخفي الرغبات “المحظورة”، تموه الرقابة، وتحتال على ما يسمى بالوازع الديني.
إنّ الحاجة النفسية إلى التمويه هي المعطى الذي تستثمره بعض آليات التسويق التجاري على طريقة “السندويتش الحلال”، و”المايوه الشرعي”، و”الطب النبوي”، و”التدليك وفق الضوابط الشرعية”، إلخ. وفي كل الأحوال، تكفي “ماركة حلال” حتى تغيب كل الأسئلة حول الضمانات الصحية أو البيئية أو الأخلاقية للمنتوج أو لشروط الإنتاج.
إنّ القابلية للتمويه هي المعطى الذي تستغله آليات الدعاية السياسية على طريقة “الدولة الإسلامية”، “الثورة الإسلامية”، “أسلمة الحداثةّ، “غزوة الصناديق”، “التدافع الحزبي”، إلخ، وبحيث تغيب أهم الأسئلة حول البرامج والسياسات.
هنا بوسعنا أن نتقدم قليلا في التحليل لكي نضيف معطى بالغ الأهمية:
إنّ رهان بعض الاستراتيجيات الدولية على الإسلام السياسي، لا سيما في سياق ما كان يُسمى بالربيع العربي، هو رهان أيضا على إمكانية ترويض اللاوعي الجمعي للمسلمين، طالما بإمكانه أن يوفر أقنعة المشروعية الدينية للرغبات “المحظورة”، والتي لا تتقبلها أنظمة الرقابة الذاتية للمسلمين، أي لا يتقبلها الوازع الديني.
إذا كان فرويد قد قارب الدين باعتباره حالة عصابية، وقاربه كارل يونغ في المقابل باعتباره قد يصير آلية للعلاج، فإن بعض الرهانات السياسية ذهبت أبعد من يونغ حيث اعتبرت التطرف الديني نفسه قد لا يخلو من أدوار علاجية، من حيث إنه قد يوفر نوعا من الغطاء التمويهي لهضم الحداثة، ولو بعسر شديد. يحاول هذا الرهان أن يستمد مشروعيته من مبدأ أنّ الدواء لا يكون إلا من جنس الداء، غير أنّ هناك تفاصيل، وفي التفاصيل تسكن الشياطين كما يقال.
رأيي في الموضوع أنّ آليات خداع الذات لا يمكنها أن توفر أي علاج فعال، بل كثيراً ما تجعل الأمور تسوء أكثر.
تنحاز الحداثة اليوم إلى حكمة قديمة تقوم على أساس أنّ المصالحة مع الذات هي الكفيلة بشفاء الذات من أمراضها. ما يعني أنّنا إذا كنا نريد أن نستعمل الدين لأجل تحقيق مصالحة الإنسان مع ذاته، فإن الأمر يستوجب مصالحة الدين مع الطبيعة البشرية أوّلا. هنا تكمن الوظيفة الأساسية للإصلاح الديني.
لا نحتاج إلى آليات التمويه إلا حين تعوزنا المصالحة مع الذات. والملاحَظ أنّ إغفال حالة الانفصام القائمة بين ما نريد وما نعتقد أنّنا نريد، يجعل معظم الاستمارات البحثية والعلمية الموجهة للمسلمين قاصرة عن تحديد ما يريده وما لا يريده الإنسان المسلم. لذلك نظنّ أنّ صيغة السؤال ستكون حاسمة في كل الأحوال. ماذا أقصد؟
حين يُسأل المسلم، هل يفضل أن يعيش أبناؤه في نيويورك لكي يحققوا أحلامهم في العلم والعمل والحب؟ فلن يتردّد في الإجابة بنعم. لكن ما أن تتغير صيغة السؤال وتصبح على النحو التالي، هل تفضل أن يعيش أبناؤك في إسطنبول لكي يحافظوا على “هويتهم”؟ حتى يجيب أيضا بنعم. هل يشعر بالتناقض؟ لا. فالإجابات كلها صادقة وتنطلق من دوافع لاواعية ومتضاربة. مرة أخرى ليس الخداع هنا مسألة أخلاقية تتعلق بمستويات الوعي والقصد والإرادة، بل معضلة صحية تتعلق بمستويات اللاوعي الجمعي. إنّ الخداع متعلق بالحالة الصحية للحضارة التي ننتمي إليها.
تبقى هناك ثلاثة توضيحات ضرورية:
أوّلا، إذا كنا سنركز النقد السياسي على الإسلام السياسي دون سواه، فلسنا نبرئ سواه، أو نعتبره معصوما عن الأخطاء، بل هناك سبب وجيه وكاف: سواء قبلنا بذلك أم لم نقبل به، يظل الإسلام السياسي هو التيار الأكثر تأثيراً في وجدان الشعوب، والأكثر اختراقاً لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني، أكان في المعارضة أم في السلطة.
ثانياً، نقدنا للإسلام السياسي هو جزء من استراتيجية النقد الذاتي، والتي تتضمن جوانب كثيرة، من قبيل نقد الموروث الديني الذي نشترك فيه جميعنا، نقد الخطاب الديني الشائع في مدارسنا ومساجدنا ومجالسنا، وأيضا نقد لاوعينا الجمعي والذي ينتظرنا فيه جهد دؤوب.
ثالثاً، إذا كان الإسلام السياسي يتأرجح دوما بين موقع الجلاد حين يكون في السلطة، وموقع الضحية حين يكون في المعارضة، فإنّ ما نرجوه من النقد الذي نسلطه هو المساهمة في تحرير الإسلام السياسي من دور الظالمية ومن دور المظلومية على حد سواء، أو هذا هو المأمول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock