سعيد ناشيد يكتب : ينبغي أن تنمو في كل أوقات الحياة …

ينبغي أن تنمو في كل أوقات الحياة، حتى في الأوقات التي لا تفعل فيها شيئًا يحظى بالإعجاب. بإمكانك ذلك في كل أحوالك. ينبغي أن تنمو كل يوم في كل التفاصيل اليومية، حتى في التفاصيل التي قد تبدو تافهة. هذا أيضًا بإمكانك في كل أحوالك. ذلك أن الأهم من السؤال ماذا تفعل؟ هو السؤال كيف تفعل؟ الأهم من السؤال ماذا ترى؟ هو السؤال كيف ترى؟ الأهم من السؤال ماذا تقرأ؟ هو السؤال كيف تقرأ؟ الأهم من السؤال إلى ماذا تنصت؟ هو السؤال كيف تنصت؟ في مجرى الحياة فإنّ كيفية الفعل أهم من الفعل في حد ذاته، كما أن كيفية العيش أهم من العيش في حد ذاته.
ينبغي أن تعيش دون أن تنتظر شيئًا من هذه الحياة القصيرة، فلا وقت لانتظار أي شيء. قد يأتي الشتاء فعلا، لكن لا تنتظره طالما تستطيع أن تواصل نموك الخاص حتى في الصحاري القاحلة والجرداء. قد يأتي الربيع فعلا، لكن لا تنتظره طالما تستطيع أن تواصل نموك الخاص حتى تحت العواصف والأعاصير. قد تأتي الأشياء التي تنتظرها والتي لا تنتظرها، لكن لا تنتظر أي شيء طالما تستطيع أن تنمو خارج كل الحسابات.
وسأخبرك بما تعلمتُه من فنون البودو (فنون القتال اليابانية):
تعلمتُ أن لكل فعل توقيت محدّد لا يزيد ولا ينقص ثانية، وذلك لأجل أن يكون الجهد يسيرا، وهو المطلوب، أما تقدير التوقيت فهو متروك للجسد نفسه، ولذكاء الجسد. بذلك النحو أتصرّف في معارك الحياة كلها. حين أفعل الشيء المناسب في التوقيت المناسب فإني أفعله بأقل جهد وأفضل النتائج. غير أن تقدير التوقيت المناسب يُعتبر من المهارات التي يُطورها الجسد نفسه بقدراته الحسية الكامنة.
يمتلك الجسد قدرة رهيبة على الاستشعار الحسي بصلاحيات القرارات المصيرية في الحياة، وبإمكانه أن يملي علينا أفضل الخيارات حين نحسن الإنصات إليه. ذلك ما نفعله في بعض الأحيان، لكننا ما أن نسجل الهدف حتى نختار مسميات أخرى، من قبيل الحدس، الإلهام، اللاوعي، الصوت الداخلي، غير أن الأمر يتعلق بقرارات الجسد.
في فنون البودو (فنون القتال اليابانية)، فإنّ دقّة التوقيت في سلوك الجسد هي التي تسمح بإحراز النّصر بأقل جهد ممكن، وأحيانًا بجهد يقارب الصفر، غير أن تلك المهارة تشمل كل معارك الحياة، ولأجل ذلك ليس مطلوبا منا سوى العمل على تنمية ذكاء الجسد.
هنا تكمن إحدى الثغرات الكبرى لنظمنا التعليمية، لا سيما وأن مركز ثقل الذكاء البشري في عصر الانتقال الرقمي ينبغي أن ينتقل من العقل الأداتي الذي سيتفوق فيه الذكاء الاصطناعي بفارق كبير، إلى ذكاء الجسد الذي هو ذكاء الحياة نفسها، وذلك لئلا يأتي على الإنسان حين من الدهر يصبح فيه العلم والمعرفة منفصلان عن الحياة.
تُعلمنا الحياة أن القرارات التي يشارك فيها الجسد تكون أكثر دقة من القرارات التي ينفرد بها العقل الأداتي. العقل الأداتي بارع في الحساب، حين يكون عليك أن تختار بين وظيفتين فإنه يميل إلى حساب الربح والأجرة والتعويضات، إلا أن أحاسيس الجسد تستحضر الأبعاد التي تهمُّ الحياة، والتي غالبا ما تكون حاسمة في النهاية، من قبيل فريق العمل، والظروف الصحية، والحافز الوجداني، والتعاطف الإنساني، إلخ.
بين الحب والسلطة ينحاز العقل الأداتي إلى السلطة، لكن الجسد ينحاز إلى الحب، أي إلى الحياة.
بين الفرح العظيم والمال الوفير ينحاز العقل الأداتي إلى المال الوفير، لكن الجسد ينحاز إلى الفرح العظيم، أي إلى الحياة.
إذا خسرتَ في هذه الحياة كل ممتلكاتك وعلاقاتك كما يحدث للكثيرين، فإن العقل الأداتي، والذي يتقن العمليات الحسابية، سيملي عليك أن تترك الحياة على الفور حفظا لكرامتك الأخيرة، غير أن جسدك يخزن خيارات تستعصي على حسابات عقلك الصغير، وليس مطلوبا منك سوى أن تُحسن الإصغاء إلى الجسد، أو تتركه يتصرّف من تلقاء نفسه، فلا تعيقه بحسابات العقل الأداتي الذي يختزل الحياة، والفكر، والسياسة، والفن، والحب، والإنسان، في مجرد عمليات حسابية.
إن المعنى الحقيقي لكلمة “قادر” هي أني قادر على تقدير التوقيت الدقيق للفعل، ولأجل ذلك ينبغي أن أعول على ذكاء جسدي، وقبل ذلك ينبغي أن أعمل على تنميته. حيث لا يكفي أن يكون القرار صائبا، بل لا يكون أي قرار صائبًا إلا بالنظر إلى توقيته المناسب، عدا ذلك فلا يوجد قرار صائب في كل الأوقات وصالح لكل الأوقات.
معظم الضعفاء يخسرون معاركهم ليس لأنهم لا حول ولا قوة لهم كما يردد بعضهم، بل بسبب عدم تقدير التوقيت المناسب لقراراتهم في الحياة.
لكل قرار إنساني توقيت محدد، وتقدير ذلك موكول لذكاء الجسد.
يستطيع جسدك أن يشعر بأنّ الأجواء غير صحية قبل أن يدرك عقلك ذلك، وقد يرسل إليك تحذيرات خافتة، لكن المشكلة أنك كثيرا ما تتأخّر في الإصغاء إلى جسدك. وذلك هو عطب الكثيرين.
يستطيع جسدك أن يشعر بأنّ الشخص الذي سيشاركك حياتك غير مناسب لك، وعبر نبضات القلب قد يرسل إليك تحذيرات خافتة، ويتأخر عقلك في الإدراك لحسابات قد تعني كل شيء إلّا الحياة، لكن المشكلة أنك قد تظنّ أن حسابات العقل أصدق أنباء من أحاسيس الجسد. وذلك هو عطب الكثيرين.
وهكذا أقول لك:
في انتظار التوقيت المناسب لفعل شيء ما فلا تنتظر أي شيء، بل دع التقدير الكامل لجسدك، وافعل ما حان توقيته في الآن والإبان. في هذه الحياة لكل حادث حديث.
دع جسدك يساعدك في اتخاذ القرارات المصيرية في الحياة، ثم واصل نموك في كل التفاصيل التي تختارها والتي لا تختارها.
لا تنس أنّ جسدك هو أفضل مستشار لك.
لا تنس ذلك !
فهل تسمعني؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock