تجليات ثراء الروابط الثقافية بين المغرب و إسبانيا و دينامية تطور هذه العلاقات
تجمع المغرب وإسبانيا علاقات ثقافية متجذرة بحكم القرب الجغرافي والتفاعل الذي فرضه على مر التاريخ تأثيرا وتأثرا بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط.
في هذا الحوار، يجيب محمد ظافر الكتاني، المدير بالنيابة للمعهد الجامعي للدراسات الإفريقية والأورو- متوسطية والايبيرو-أمريكية بالرباط (معهد الدراسات الإسبانية البرتغالية سابقا)، على خمسة أسئلة لوكالة المغرب العربي للأنباء، بمناسبة الزيارة المرتقبة لرئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز للمملكة بحر الأسبوع الجاري، حول تجليات ثراء الروابط الثقافية بين البلدين، والدينامية التي تشهدها هذه العلاقات وسبل تطويرها وأدوار المعهد الجامعي في مواكبتها.
- جمعت المغرب وإسبانيا عبر التاريخ علاقات ثقافية غنية، ما هي أبرز تجليات هذا الثراء في نظركم؟
تشكل المملكة المغربية ومملكة إسبانيا، الدولتان الجارتان، نموذجا للتعايش والتمازج الثقافي والحضاري وحسن الجوار الذي ينبغي أن يحكم العلاقات الدولية في الوضع الراهن. وهو نموذج تعود جذوره الى التاريخ المشترك الذي يربط بين البلدين الصديقين منذ أزيد من عشرة قرون.
فهذه العلاقة تبقى تحت التأثير المباشر وكذا غير المباشر لتدفقات الهجرة بين البلدين وفي كلا الاتجاهين. فكما لا يخفى، فإن هذه التأثيرات، تمر عبر اعتماد اللغة بصفة أعم باعتبارها أداة للتواصل بامتياز. ونشير في هذا الصدد إلى ما شهدته الفترة ما بين القرن الخامس عشر إلى غاية نهاية عهد الحماية عام 1956، من طرد لآلاف اليهود السفاراديين من مملكة قشتالة وأراغون عام 1492، والذين اتجه معظمهم إلى شمال المملكة، وكذا لجوء الموريسكيين ابتداء من عام 1609، حيث استقر منهم بالمملكة ما بين 40 و60 ألف شخص ممن لهم نصيب من الإلمام باللغة والثقافة الاسبانية، وانصرف الكثير منهم إلى ترجمة النصوص الإسبانية إلى العربية.
من جهة أخرى، أدت تدفقات الهجرة في الاتجاه المعاكس إلى حضور للثقافة المغربية في الديار الإسبانية، من خلال الجالية المغربية المقيمة هناك، والتي تعتبر أول جالية بهذا البلد، من حيث العدد الذي يفوق اليوم 767 ألف شخص.
وبالتالي فإن هناك تأثيرا مزدوجا في الجانبين في مجالات عدة، كالمعمار، وفن الطهي، والفنون الحية من قبيل الغناء، والموسيقى والرقص. كما لا يفوتني أن أذكر مجال الآداب والعلوم الإنسانية، وخاصة الكتابات الأدبية، من قبيل الأشعار، والتي وصل صدى البعض منها، في بعض الأحيان، إلى منطقة أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال.
- تشهد الأنشطة الثقافية المشتركة بين البلدين دينامية قوية كان أبرزها مؤخرا تنظيم المعرض الأركيولوجي “حول أعمدة هرقل.. العلاقات الألفية بين المغرب وإسبانيا” في ماي المنصرم بمدريد، والدورة الثالثة من البرنامج الثقافي “وجوه” التي نظمتها وزارة الثقافة والرياضة الإسبانية بالمغرب، ما قراءتكم لهذه الدينامية باعتبارها آلية من آليات الدبلوماسية الثقافية؟
من المهم أن يتم النظر إلى العلاقات الثقافية بين المغرب وإسبانيا من خلال منظور تقاطع الحضارات بوصفها موروثا مشتركا بين البلدين. وكون هاتين المبادرتين تم احتضانهما من قبل الجارة إسبانيا، فهذا خير دليل على الرغبة الاكيدة للتعمق في السبل المعرفية لثقافة الجار ورفع أي لبس قد ينتج عن جهل المقومات الثقافية للطرف الآخر.
ومن المرتقب أن تنمو وتيرة هذه المبادرات، وأن تكون نابعة من كلا الطرفين على حد سواء، في إطار متوازن، من أجل بناء صرح علاقات متينة وتدعيم مبدإ التوافق، بين البلدين، خاصة بعد الإشارات الإيجابية التي أبانت عنها الجارة إسبانيا، من خلال التحولات الجوهرية التي شهدتها سياستها الخارجية تجاه المغرب.
- أكد البيان المشترك الذي توج زيارة رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، في أبريل المنصرم للمغرب، عزم البلدين على وضع خارطة طريق من أبرز نقاطها تعزيز التعاون الثقافي الثنائي عبر إحداث فريق عمل قطاعي في المجال وإعطاء دفعة جديدة لمجلس إدارة مؤسسة الثقافات الثلاث. ما دلالة هذا الحضور القوي للبعد الثقافي في هذه الوثيقة؟
بالفعل، الملامح الأولى لهذا المشروع تبعث على التفاؤل، إذ يكتسي أهمية قصوى باعتباره سيجعل من الممكن إنشاء إطار يفضي إلى حماية التنوع الثقافي، فضلا عن تعزيز الدور النشط والفعال للبلدين المتجاورين في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وإرساء علاقات قائمة على التضامن والاحترام المتبادل واحترام السيادة والتبادل الثقافي، والوصول الجماعي إلى المعرفة. وسيمكن على المدى المتوسط من نشر والتعريف بالتراث الثقافي والطبيعي المغربي والإسباني على حد سواء، وكذلك رأس المال المادي وغير المادي، وهو أمر يمر عبر تطوير هذا النوع من التعاون بين الجامعات المغربية والإسبانية من جهة، وبين كافة مكونات النسيج المجتمعي والاقتصادي المغربي والإسباني من جهة أخرى.
لذا، يمكن اعتبار هذا المشروع أداة مهمة لتقوية العلاقات الثنائية وتعزيز التفاهم المتبادل والمعرفة، ومن المنتظر أن يدعم القيم المرتبطة باحترام مبادئ القانون الدولي بما في ذلك مبدأ وحدة الأراضي التي تضاف إليها قيم الحوار والسلام والتضامن.
- بالحديث عن المعهد الجامعي للدراسات الإفريقية والأورو- متوسطية والايبيرو-أمريكية، أي مساهمة يقدمها لتوطيد التعاون الأكاديمي بين البلدين؟ وكيف تنعكس هذه المساهمة على تعزيز الحوار والتبادل الثقافي بين البلدين؟
يقدم المعهد، في حلته الجديدة، مساهمة كبيرة للعلاقة التي تجمع بين البلدين، في إطار الدبلوماسية الموازية، من خلال “دراسة وبحث مختلف جوانب حضارات وثقافات إسبانيا والبرتغال ودول أمريكا اللاتينية”. فاهتمام المعهد يتركز على إعادة تقييم التراث التاريخي والثقافي المشترك بين المغرب والعالم الإسباني-اللوزوفوني، وكذلك على المجالات ذات الأولوية، وذات الاهتمام المشترك، والمرتبطة بالحاضر والمستقبل.
ومن خلال نشاطه في ميداني البحث العلمي والتعاون الدولي، يحاول المعهد تأكيد مكانته كعنصر فاعل في الحوار بين الثقافات، عبر التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف، والمشاركة الفعالة في شبكات البحث الدولي، وتنمية الشراكات الوطنية، وإنتاج علمي مستدام وعالي المستوى، والمواكبة المستمرة تحت مشعل الدبلوماسية الثقافية والجامعية.
كما يغطي المعهد، من خلال مهمته، مساحة جغرافية وبشرية شاسعة وذات أهمية للعالم الأيبيري، والأيبيري الأمريكي، والأفريقي أيضا، من خلال الدور الذي يلعبه المغرب باعتباره منصة للتفاهم بين أمريكا الأيبيرية وأفريقيا. وهذا التوجه يعكس الرغبة الأكيدة في دعم إشعاع المعهد، غير مقتصر على الشؤون الثقافية، بل ويمتد آخذا بعين الاعتبار الأبعاد الجيو-سياسية، والاقتصادية، تحت منظور شامل ومتجانس.
ويعمل المعهد أيضا على إعادة تقييم التراث التاريخي والثقافي المشترك بين المغرب والعالمين الناطقين بالبرتغالية والإسبانية من خلال مشاريع مستقبلية، وتوقيع شراكات مع جامعات إسبانية وغيرها تنتمي إلى المنطقة الأيبيرو-أمريكية، مازجة بين اللغة والثقافة، نذكر على سبيل المثال، إعداد معاجم متخصصة للترجمة في تلك اللغتين، وذلك على أساس المعرفة والتبادلات والتفاعل بين السكان، في إطار حوار مثمر بين الثقافات.
- ما هي مقترحاتكم لتعزيز التعاون الثقافي بين المغرب وإسبانيا، وتقديمه كنموذج في المنطقة والعالم لدور الثقافة في خدمة قضايا السلام والتعايش
أولا وقبل كل شيء، من المهم جدا أن تتضمن كل أوجه التعاون الثقافي المشترك شقا مبنيا على التواصل الإيجابي، الذي يؤدي الى التركيز على نقط الالتقاء وأوجه التكامل.
ومن المهم أيضا أن تتطرق مجالات التعاون إلى قضايا جوهرية، نذكر منها خاصة المجالات الحقوقية، قضايا المرأة والطفل والهوية، والتي عرفت تطورات جد إيجابية في ظل السياسة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، وذلك للتعريف بها على الساحة الدولية، والتصدي للحملات الشرسة والمغلوطة المضادة. مع العلم أن الجامعات المغربية تستضيف العديد من الكراسي العلمية في هذه المجالات.
كما يعد التركيز على التراث اللامادي، من الأمور الجوهرية، من قبيل وضع مشاريع أكاديمية تتبنى مواضيع تاريخية، تتوخى تأليف موسوعات ذات صبغة تاريخية، تعرف بقضايا المنطقة ككل، وبالاستناد إلى منهجية علمية بحتة. كما سيكون من المهم جدا بناء جسور للتواصل ترتكز على الوسائل الحديثة، وتستهدف جميع الفئات العمرية، بدءا بالأطفال.
ومن الضروري أيضا إشراك الجالية المغربية المقيمة بإسبانيا في تلك الأنشطة، وخاصة النخب منها، وذلك بتعاون مع مجلس الجالية المغربية بالخارج. فهناك العديد من أفراد الجالية الذين نجحوا في مسارهم المهني والمجتمعي على حد سواء ارتباطا بالقضايا سالفة الذكر، وتبوؤوا مكانة مرموقة في ميدان اختصاصهم، وهم إذن خير سفير لبلدنا خارج حدود الوطن.