ماجد كيالي يكتب : روسيا و السقوط المحتمل لدول الغرب
طوال العام الماضي، دأبت روسيا، عبر وسائل إعلامها والمتعاطفين معها، للترويج لفكرتها، أو بالأحرى رغبتها، عن انهيار الغرب، ويأتي ضمن ذلك خطابها عن تدهور الاتحاد الأوروبي، وتفكّكه، ونأيه بذاته عن سياسات الولايات المتحدة عليه، والتي تستغله وفق مصالحها، باعتبار إن ذلك يمهد لنشوء عالم جديد، متعدد الأقطاب، تتربع على عرشه الصين وروسيا، أو روسيا والصين، مستدلة على ذلك بمؤشرين: الأول، صعود الصين اقتصادياً، ما يوحي أنها باتت قاب قوسين أو أدنى من إزاحة الولايات المتحدة، عن عرش الاقتصاد العالمي، وتقليص هيمنتها كقطب أوحد في العالم. الثاني، واقع الاعتماد المطلق للدول الأوروبية على امدادات الطاقة (النفط والغاز) من روسيا، إلى درجة الادّعاء أن تلك الدول كانت مدينة بتطورها الصناعي وقوتها الاقتصادية، وبمستوى رفاهيتها، لتلك الامدادات الرخيصة الثمن.
وبغض النظر عن سذاجة تلك الادعاءات، التي تنطلق من رغبات، أو افتراضات منفصمة عن الواقع، فهي تذكر، أيضاً، بالدعاية السوفياتية التي لطالما كان يستهويها الحديث عن الحتمية التاريخية لانهيار الرأسمالية في العالم وانتصار الاشتراكية، والتي كانت تستمرئ الحديث عن أزمات الرأسمالية، في حين لا تدرك الأزمات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المعشعشة في النظام السوفياتي – الروسي، بحيث كانت النتيجة مهولة، ومفاجئة، إذ انهار الاتحاد السوفياتي، وتفكك، من تلقاء ذاته، ومعه دول المنظومة الاشتراكية، في حين استمر النظام الرأسمالي، بتعددية تمثلاته وبنواقصه ومشكلاته، والذي استطاع تجديد نفسه بحسب تعبير لفؤاد مرسي، شكل عنواناً لكتابه: “الرأسمالية تجدد نفسها، دار المعرفة، 1990”.
النتيجة كانت، أيضاً، تحوّل روسيا، وريثة الاتحاد السوفياتي، نحو النظام الرأسمالي (من دون قواعد قانونية منظمة)، وحتى إن ذلك انطبق على الصين التي ذهبت إلى هذا الاتجاه، تحت هيمنة الحزب الشيوعي! رغم أن ما ميزها، عن الروسية، هو استثمارها في العولمة.
هكذا، فإن العالم بأسره بات يسير، منذ أواخر القرن الماضي، وفق آليات النظام الاقتصادي الرأسمالي، من ناحية علاقات الإنتاج والتبادل والتداول ومراكمة رأس المال، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي، والإطارات القانونية، بحيث بات منقسماً بين دول تشتغل وفق أسس الديموقراطية الليبرالية، مع التفاوت بين دولة وأخرى، في مدى التقدمات الاجتماعية، ودول أخرى تشتغل وفق آلية الأنظمة الشمولية، وهذا ينطبق على روسيا، التي يتحكم بها الرئيس ومجموعة من الأوليغارشية المتنفذين والتي تعتمد العسكرة لفرض ذاتها، وزيادة نفوذها الإقليمي والدولي، كما ينطبق على الصين التي يتحكم بها الحزب الشيوعي والطبقة السياسية المهيمنة، وتعتمد على القوة الناعمة، وعلى براغماتيتها، في زيادة نفوذها وفي استثمار عوائد العولمة.
هنا يمكن طرح تساؤلات عدة مثلاً، إذا كانت الدول الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا) مدينة بقوتها الاقتصادية لإمدادات الطاقة ومواد الخام الروسية، فلمَ لم تتقدم روسيا علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً على أي من تلك الدول، علماً أن مساحتها تزيد 50 مرة عن أي منها؟ ثم ألا يفسر استنكاف الصين، التي تتعرض للتضييق عليها من قبل الدول الغربية، عن دعم روسيا، حقيقة أن الصين معنية بالنأي بنفسها عن التداعيات الناجمة عن الصراع بين الغرب وروسيا، حفاظاً منها على روابطها الوثيقة بالغرب، وحفاظاً منها أيضاً على مصالحها وعلى دورتها الاقتصادية التي لا يمكن أن تستثمر من دون شركات واستثمارات وأسواق وتكنولوجيا الدول الغربية؟ أيضاً، إذا كان الخيار بين نظامين رأسماليين، أحدهما يقوم على قواعد ديموقراطية ـ ليبرالية، وهو أكثر تطوراً، اقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً، وأكثر احتراماً لحقوق المواطن، رغم كل سلبياته، والآخر، يقوم على قواعد الديكتاتورية، ولا يلقى اهتماماً بحقوق المواطنين، وهو الأقل تطوراً من كل النواحي، فلماذا سيتم اختيار الثاني؟ هذا السؤال يأخذنا إلى سؤال آخر مسكوت عنه في الدعاية الروسية، يتعلق بنفور الدول التي عايشت النفوذ الروسي القيصري والسوفياتي من الخضوع للهيمنة الروسية، وانزياحها نحو الغرب، وإلى حد الاحتماء بحلف “الناتو”، كما يحصل مع دول البلطيق، مثلاً، وبولونيا، وبلغاريا، وتشيكيا؟
في السياق ذاته، فإن تلك الدعاية روّجت لانهيار اقتصادات الدول الأوروبية، وتفكك الاتحاد الأوروبي، بسبب خلافاته، وأزماته المالية، وحاجته الماسة للنفط والغاز الروسيين بأسعار رخيصة، لدعم نمط عيشه ورفاهيته، تبين انفصامها عن الواقع، بل وثبت عكسها، إذ إن ذلك الاتحاد لم يكن بتلك الوحدة والقوة كما هو اليوم، ولم يكن أكثر قرباً، في ما مضى، من الولايات المتحدة منه إليها اليوم، رغم التباينات التي تعبر عن طبيعة تلك الأنظمة، وحاجاتها ومصالحها المختلفة، وعن تعددية الرأي فيها، والتي لا تغطي على وحدة الموقف الأوروبي والأميركي في دعم الشعب الأوكراني، وعدم تمكين فلاديمير بوتين من الفوز بأوكرانيا، وأيضاً إبقاء الأمر عند الضغط على بوتين لوقف الحرب، من دون إيصال الأمر لهزيمة روسيا، لتجنيب العالم مخاطر الحرب النووية أو الحرب العالمية.
ما يفترض أن يدركه صانع القرار الروسي هو أن الدول الأوروبية استطاعت تحمل الأثمان الباهظة لفك الارتباط بإمدادات الطاقة الروسية، بإيجاد بدائل لها، من مصادر أخرى، وبتعزيز استثمارها في الطاقة الخضراء، وبالتعاون ككتلة لحل المشكلات الناجمة عن ذلك، علماً أنها استطاعت التخفيف من طائلة ارتفاع الأسعار، وضمنه أسعار الطاقة، على مواطنيها، بسبب قوتها الاقتصادية. وربما يجدر التنويه هنا بأن الناتج الإجمالي للدول الأوروبية يقدر بحوالى 25 تريليون دولار سنوياً، وهي قدمت دعماً مدنياً وعسكرياً لأوكرانيا يقدر بـ50 مليار دولار (مثله قدمت الولايات المتحدة لوحدها أيضاً)، وهذا رقم يشكل حوالى 2 في الـ 1000، فقط، من اجمالي الناتج المحلي لأوروبا، وحتى إذا اضفنا الأعباء التي تكبدتها الدول الأوروبية جراء التضخم ودعم الأسعار بمبلغ يقدر بـ500 مليار دولار، فإن المبلغ يصل إلى 2 في المئة فقط.
باختصار، ما تقدم يعني أن لدى الدول الأوروبية هامشاً للاستمرار في دعم أوكرانيا، وفي الضغط على روسيا بوتين، إلى حين وضع حد للحرب، ونبذ الأوهام، والجلوس على طاولة مفاوضات لإيجاد حل مناسب لكل الأطراف، بما يكفل وحدة وسيادة أوكرانيا، والسلام في أوروبا؛ لأن هذا وحده ربما يمهّد لتصويب العلاقات بين روسيا وأوروبا.