فيصل القاسم يكتب تقديم لمؤلف “المراجعات والبدائل أي أسس لفكر سياسي مجدد”

ذات يوم في السنوات التكوينية الأولى من عملي الإعلامي في قناة الجزيرة تابعت بالصدفة على شاشة القناة مقابلة مع دكتور تونسي لسوء حظي لم أعرفه من قبل، فصحت بأعلى صوتي وقتها بعد انتهاء المقابلة “وجدتها، وجدتها”، ولا أبالغ أبدا في تصوير ذلك الشعور الذي انتابني في تلك اللحظات الاستكشافية الرائعة لفكر الدكتور منصف المرزوقي. قلت في نفسي آنئذ إن ما تفضل به الدكتور هو ما أبحث عنه منذ زمن بعيد، ولم يستطع أحد حتى الآن أن يؤطره ويوضحه ويكبسله لي بالطريقة المثلى مثلما فعل الدكتور المرزوقي الذي أجاب على كل أسئلتي وهواجسي بدقة وبالسهل الممتنع

كانت الأفكار التي سمعتها في ذلك الوقت ثورية عز نظيرها وغير مسبوقة تحمل الكثير من الفروسية والشجاعة والندرة. لقد كانت نادرة فعلا في وقت كان فيه الحديث عن الديكتاتوريات والاستبداد والطغاة والطواغيت وحقوق الإنسان رجساً من عمل الشيطان في الخطاب الإعلامي العربي، فاجتنبوه، ولا شك أن كثيرين اجتنبوه لأسباب لا تخفى على أحد، فقد كان مجرد ذكر الديكتاتورية والديكتاتوريين وانتهاكات حقوق الإنسان بشكل عام يبعث الخوف في نفس الكاتب والقارئ على حد سواء، فما بالك أن تجهر بها بكل شجاعة وفصاحة على الشاشات التي باتت وقتها تقتحم كل البيوت على نطاق لم يسبق له مثيل.

لم يكن الدكتور المرزوقي عموميا في طروحاته تجنبا لأذى الطغاة وكلاب صيدهم، بل كان يسمي الأشياء بمسمياتها، وقد كانت دريئته المفضلة في ذلك الوقت، ولا عجب الطاغية التونسي الهالك زين العابدين بن علي، خاصة وأن الدكتور المرزوقي كان من أشهر ضحاياه. وقد آثر النضال من المنفى، لكنه كان واثقا أنه سيعود مظفراً إلى بلده ذات يوم مهما طال الانتظار والنضال، وهذا ما حدث فعلا. ولا شك أن كفاحه الحقوقي السلمي أثمر أكثر مما كان يتوقع الدكتور المرزوقي نفسه، فهو لم يعد إلى تونس فقط للاحتفال بنجاح نضاله ضد الظلم والطغيان، بل إن الشعب التونسي كافئه على نضالاته بانتخابه رئيساً للبلاد ليكون أول رئيس تاريخي بعد الثورة على أنقاض حكم الطاغية الذي تصدى له لسنوات وسنوات. وقد كان وصول هذا المناضل الحقوقي إلى سدة الحكم في بلده بعد سنوات من الجهاد في المنفى ضد الديكتاتورية والاستبداد بارقة أمل لكل المناضلين في العالم العربي بعد عقود من التشاؤم والإحباط والقهر.

لعل أكثر ما يميز فكر الدكتور المرزوقي على مدى سنوات نضاله أنه كان دائما متفائلا في أحلك الظروف. لم ترهبه أيادي البطش ولا كلاب الأمن والعسكر، ولم يحبطه المرجفون، فقد كان دائما علميا ودقيقا في طروحاته، كيف لا وهو الأستاذ والطبيب والعالم، فقد كان يقرأ تاريخ المناضلين والثورات والطغيان بعين الجراح لا بعين الحالم الطوباوي الذي يعيش على الوهم والأحلام. كان منذ بدء ثورته على الظلم والظالمين رؤيوياً يرى الطريق والمستقبل بوضوح شديد نظراً لخلفيته العلمية التي ترى الأمور بعين الفيزيائي. وفي الوقت الذي كنا أنا وكثيرون نشعر بالإحباط واستحالة الانتصار على الطغاة في العالم العربي كان الدكتور المرزوقي يبسط لنا الأمور بجردة تاريخية لبعض الظواهر بطريقة علمية وبمنطق رياضي لا تخطئه عين.

لم ييأس الدكتور المرزوقي في مواجهة الطواغيت في الموجة الأولى من النضال الحقوقي والثوري، ولم يفقد الحماس أيضا بعد انتصار الثورات المضادة في أكثر من مكان في وقت أصبح اليأس ديدن الكثيرين من الناشطين والثوريين في العالم العربي. وعندما كنت أسأله بنبرة تشاؤمية عن مصير الثورات بعد كل هذا الدمار والخراب كان يقول: “ملايين من البشر بيعت في أسواق النخاسة طوال الثلاث الاف سنة الأخيرة. من كان يتصور نهاية العبودية؟ مع هذا انتهت.

عشرات الشعوب تم استعمارها في الاربع قرون الاخيرة. من كان يتصور نهاية الاستعمار، مع ذلك انتهى؟ الاستبداد لن ينتهي؟ فقط قيس سعيد يتصور ذلك.

آخر من له الحق في الشك والاحباط هو أنت أخي فيصل. شئت أم أبيت أنت أحد آباء الربيع العربي. قد لا نرى نهاية الدكتاتورية لكن دورنا الى آخر نفس أن نعمل كل ما يمكن للتعجيل بتنفيذ حكم الإعدام الذي أصدره التاريخ في حقها. زرعوا فأكلنا -الذين ناضلوا ضد العبودية والاستعمار، نزرع ليأكلوا أعني أطفالنا لينعموا بالحرية والكرامة.” هكذا قال لي الدكتور المرزوقي أكثر من مرة بنبرة العارف والمتفائل دائماً.

كم عدد الثوريين الذين ما زالوا يحملون هذه النظرة الاستشرافية الجميلة لمستقبل العالم العربي؟

لا شك قلة قليلة جداً. لم ييأس ولن ييأس حسبما نرى من خلال ثورته الجديدة على حكم قيس سعيد. إن شخصاً بعمر الدكتور المرزوقي الذي أفنى حياته في مقارعة الطغاة والطغيان كان يمكن أن نتوقع منه أن يرتاح بعد أن قدم وأنجز الكثير على صعيد الفكر الثوري والحقوقي، لكن ما أن عاد النظام التونسي الجديد بقيادة قيس سعيد ليستنسخ نظام بن علي الهالك، حتى عاد الدكتور المرزوقي إلى المربع الأول، وكأنه تلميذ جديد في ساحة مقارعة الديكتاتورية وأنظمة القهر والقمع. عاد معارضا هذه المرة، فقد شمر عن ساعديه مرة أخرى وراح يناضل ضد الانقلاب القذر على الثورة التونسية بروح الثائر القديم.

لقد نسي أنه كان رئيسا للجمهورية وشخصية اعتبارية، فتجاهل كل ذلك وعاد إلى أساليب النضال القديمة التي كان يمارسها ضد نظام بن علي قبل عقود بنفس الروحية والحماسة والعنفوان والنشاط الفكري والإعلامي. ولم ينس الدكتور المرزوقي أبدا الثورات العربية الأخرى ولا المتآمرين عليها من العرب والأجانب، فقد وقف دائما مع الثورة السورية والليبية واليمنية، وكان دائما يضع النقاط على الحروف دون وجل، ويعود له الفضل طبعاً في فضح ما كان يسميه بالغرف السوداء التي تدير الثورات المضادة من بعض الدول العربية المتآمرة على الشعوب وعلى ثوراتها. وكما فعل بن علي مع الدكتور المرزوقي ورفاقه، عاد قيس سعيد والعصابة التي تديره من وراء الكواليس في تونس والغرف السوداء خارج تونس، عادوا لملاحقة الدكتور المرزوقي بنفس الأساليب الشيطانية الممجوجة، فحاربوه إعلاميا بهدف الشيطنة، ثم أصدروا بحقه أحكاماً قضائية سخيفة ولاحقوا أفراد عائلته محاولين إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، مما حدا بالدكتور المرزوقي إلى العودة إلى منفاه القديم في فرنسا، لكنه راح يجوب العالم شارحاً قضية شعبه من جديد وفاضحاً أساليب النظام الانقلابي وداعميه في الداخل والخارج وداحضاً مزاعم الثورات المضادة التي شوهت الثورات وزيفت التاريخ وشيطنت الثوار. وعلى الرغم من أن الدكتور المرزوقي ورفاقه يواجهون الآن أكبر ثورة مضادة يشارك فيها كلاب الداخل وضباع الخارج، وبالرغم مما لحق ببلاد الثورات من مصائب وكوارث على أيدي أعداء الشعوب والثورات، إلا أنه مازال متمسكاً بفكرة الثورة وطهارتها، وهو لم يتزحزح قيد أنملة عن مبادئه ونظرياته الثورية.

طبعا لم يكن عيبا أبدا ولا خطأً أن يثور العرب في أي وقت، حسب رأيه، وبالتالي، فأن المشكلة لم تكن يوما في العرب التائقين للحرية والتحرر، بل في القوى التي استغلت طموحاتهم وتطلعاتهم إلى الحرية والاستقلال لتمرير مخططات ومشاريع لا علاقة لها أبدا بطموحات العرب. صحيح أن القوى الاستعمارية الغربية كانت تحث العرب على الثورة في عام ١٩١٦، لكنها كانت في الخفاء تعمل على وضعهم تحت الوصاية الاستعمارية الجديدة، لا بل فعلت ما هو أسوأ، حيث كانت تخطط لتقسيمهم إلى دويلات. ففي الوقت الذي كان البريطانيون يتسامرون مع الشريف حسين، ويعدونه بهذه الولاية أو تلك مقابل تمرده على العثمانيين، كان سايكس الانكليزي وبيكو الفرنسي يضعان خرائط جديدة لتمزيق المنطقة العربية. وبعد أن أكل العرب الطعم فوجئوا لاحقاً باتفاقية سايكس-بيكو سيئة الصيت. وبالتالي، بدل أن يحصل العرب على الحرية، ويتحرروا من النير العثماني، وجدوا أنفسهم في فخ جديد لا يقل سوءا، إن لم يكن أسوأ بكثير من الشرك العثماني. لكن مع ذلك، لم تكن فكرة التحرر خاطئة مهما كانت نتائجها.

هل نشهد الآن نسخة معدلة من الثورة العربية الكبرى تحت يافطة “الربيع العربي”؟ حتى لو تأكد ذلك، فهو ليس ذنب الشعوب العربية التي ثارت أبدا. فقد كان هناك مليون سبب وسبب في رأي الدكتور المرزوقي، لدفع الشعوب إلى الثورات. صحيح أن هناك قوى كثيرة عربية وإقليمية ودولية وجدت في الثورات العربية خطرا عليها، وراحت تعمل على إحباطها وإفشالها وحرفها عن مسارها وتسخيرها لصالحها بدل صالح الشعوب الثائرة. وصحيح أيضا أن هناك قوى وجدت في الثورات فرصة سانحة لتعديل اتفاقية سايكس-بيكو وتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، كما نرى الآن في العراق وسوريا واليمن وليبيا، حيث يخيم شبح التقسيم على تلك البلدان، لكن ما ذنب الشعوب الثائرة التي قامت للتخلص من الديكتاتوريات العسكرية الحقيرة؟ من الذي وفر أسباب الثورات أصلا؟ لماذا نلوم الشعوب التي ثارت من أجل قليل من أوكسجين الحرية، ولا نلوم الأنظمة الطغيانية التي سحقت الشعوب على مدى عقود، وجعلتها تثور على جلاديها؟ لماذا يحاول البعض أن يلقي باللوم على الثورات وعلى الشعوب، ولا يلقيه على الطواغيت الذين تسببوا باندلاع الثورات؟ هل كانت القوى المتربصة بالمنطقة لتستغل الثورات والأوضاع التي نتجت عنها لإعادة رسم خرائط المنطقة كما حدث عام 1916، لولا أن الطغاة دفعوا الشعوب إلى الثورة؟ لذلك، فإن المسؤول عما يحدث الآن من فوضى ومشاريع شيطانية هي الأنظمة الحاكمة التي لم تمهد الطريق أمام المتربصين ببلادنا فحسب، بل ساعدتهم أحياناً كي يحرفوا الثورات عن مسارها، ويحولوها إلى وبال على الشعوب والأوطان. إن طاغيتين كبشار الأسد وعلي عبدالله صالح أثبتا للعالم أنهما مستعدان أن يحرقا سوريا واليمن، ويساعدا كل من يريد شرذمة البلدين وتمزيقهما إلى ملل ونحل متناحرة كي ينتقما من الشعبين الثائرين. وقد سمعنا علي عبد الله صالح وهو يقول لمؤيديه: “احرقوا كل شيء جميل في اليمن”. وسمعنا أنصار بشار الأسد وهم يقولون: “الأسد أو نحرق البلد.”

أكاد أسمع الدكتور المرزوقي يردد دائما: كفاكم جلداً للثوار والثورات والشعوب. من حق الإنسان أن يثور على الظلم والطغيان بغض النظر عمن يريد أن يستغل ثورته لأهدافه الخاصة. ما ذنب العرب عام ١٩١٦ عندما أرادوا أن يستقلوا في دول وطنية حديثة؟ ما ذنب شعوب “الربيع العربي” عندما أرادت أن تتخلص من الأنظمة الفاشية العسكرية المخابراتية؟ ما ذنب الجوهرة إذا سرقها اللصوص؟ ما ذنب الإنسان الذي يعمل من أجل الحصول على وجبة لذيذة، لكن الكلب التهم الوجبة قبل أن تصل إلى أيدي صاحبها؟ ثم من قال إن الشعوب ستظل تسمح للكلاب بالتهام الوجبة قبل أن تصل إلى أيديها؟

وهذا بالطبع يعيدنا إلى أحد أهم كتب الدكتور المرزوقي بعنوان “الاستقلال الثاني”، فمن يريد أن يفهم الأوضاع التي آلت إليها الثورات في العالم العربي يجب أن يقرأ ذلك الكتاب المهم جدا، ففيه يوضح الكاتب أن العرب لم يحصلوا على استقلالهم مطلقاً بخروج المحتل الأجنبي من ديارهم، فقد كان ذلك استقلالاً أولياً غير ناجز، لأن المستعمر لم يخرج إلا بعد أن نصب مكانه وكلاءه وكلابه من بني جلدتنا، فكانوا أشد وطأة وقسوة وقذارة من المستعمر الأصلي بمرات ومرات، وبالتالي لا يمكن القول إننا تحررنا بوجود تلك الشرذمة والطغم التي مازالت تنوب عن المستعمر الأول في قتلنا وقمعنا وقهرنا بطرق أفظع من الطرق الاستعمارية القديمة بكثير. وقد شاهدنا على مدى العشر سنوات الماضية من عمر الموجة الأولى من الربيع العربي كيف أن الكفيل الاستعماري تدخل فوراً عندما فشل الوكيل المحلي في التصدي لثورات الشعوب وسحقها. لقد شاهدنا كيف تدخل الروس نيابة عن الأمريكي والإسرائيلي في سوريا لحماية المستعمر المحلي عندما أوشك على السقوط ولم يعد قادرا على مواجهة الثورة الشعبية، فاستخدمت روسيا كل الأسلحة المحرمة

دوليا ضد السوريين لحماية كلب الصيد الذي كان ينوب عن المستعمر في قهر وذبح الشعب السوري لعقود وعقود.

لقد أخبرنا الدكتور المرزوقي في كتابه آنف الذكر قبل سنوات من الثورات بأن مشكلتنا الحقيقية كشعوب ليست مع كلب الصيد بل مع الصياد الذي يستخدم وكيله المحلي لقهر الشعوب واستعبادها وبالتالي لا يمكن أن نتخلص من الكلب دون التخلص من نفوذ الصياد في بلادنا، وهو ما يسميه المرزوقي بالاستقلال الثاني. إن الشعوب الثائرة اليوم أصبحت في مواجهة مكشوفة ومفضوحة ليس مع الطغاة المحليين بل مع كفلائهم في الخارج، ولا يمكن أن يتحقق الاستقلال الوطني الحقيقي (الثاني) إلا بالانتصار على الصياد وعلى كلب الصيد في آن معاً.

ولا أنسى أنني بعد أن تعرفت على أفكار الدكتور المرزوقي في تلك المقابلة الشهيرة على قناة الجزيرة، عمدت منذ ذلك الحين أن أتشرف باستضافته في برنامج “الاتجاه المعاكس” مرات ومرات ليصبح أشهر ضيف حمل مشعل الثورة والتحرر الإنساني ظهر على برنامجي. وبعدها أصبح ضيفا مقيما على شاشتنا لأنه غدا منارة لملايين العرب التائقين للتحرر من نير الاستبداد والاستعباد.

ويأتي كتاب الدكتور المرزوقي الجديد الموسوم “المراجعات”، أي فكر سياسي للقرن الحادي والعشرين، كما يوحي عنوانه، يأتي تتويجاً لرحلة طويلة مع الفكر الثوري والسياسي والحقوقي، يصحح حيث وجب التصحيح، ويستشرف حيث وجب الاستشراف، خاصة وأن الشعوب باتت اليوم تواجه عالما مختلفا تماما عن العالم الذي عاشه الدكتور المرزوقي على مدى أكثر من سبعين عاماً من عمره، لذلك وضع هذا الكتاب ليس فقط كي يراجع أفكاره ومفاهيمه القديمة، بل كي يضيء الدرب للأجيال القادمة في رحلة البحث الجديدة عن الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock