“فضيحة فساد” تهز الاستقرار الهش في جمهورية بيرو
هزت “فضيحة فساد” الاستقرار الهش في جمهورية بيرو، إحدى دول أميركا الجنوبية، بعدما خضعت رئيسة البلاد دينا بولوارتي لاستجواب بشأن مقتنياتها من ساعات “روليكس” ومجوهراتها وودائعها المصرفية التي لم تصرح بها، في إطار تحقيق بشبهة الإثراء غير المشروع. دافعت بولوارتي عن نفسها، لكن البلاد تقف على حافة أزمة سياسية، قد تطيح أول امرأة تتولى الرئاسة من القصر إلى السجن!
ثلاث ساعات
كان رجال الشرطة والمحققون فى بيرو اقتحموا مقر إقامة الرئيسة بولوارتي، بطلب من مكتب المدعي العام، بحثاً عن “ثلاث ساعات فاخرة” لم تعترف بولوارتي بحيازتها في إقرار الذمة المالية، عند وصولها إلى السلطة فى تموز (يوليو) 2021 كنائبة للرئيس ووزيرة للتنمية الاجتماعية، ثم كرئيسة فى كانون الأول (ديسمبر) 2022. وجاء التحقيق القضائي للوقوف على مصدر الساعات الثمينة، وإذا ما كانت الرئيسة قد حصلت عليها بشكل قانوني أم استغلت منصبها ونفوذها؛ في تحقيق مكاسب غير مشروعة. كذلك يسعى النائب العام للحصول على تفسيرات لاقتناء بولوارتي “سوار كارتييه بقيمة 56 ألف دولار” ومجوهرات أخرى تقدّر قيمتها بأكثر من 500 ألف دولار، وودائع مصرفية بنحو 250 ألف دولار تعود للفترة التي تولت فيها الوزارة. وحذر النائب العام بولوارتي من التخلص من الساعات أو تدميرها.
وفي حال وُجهت اتهامات رسمية إلى بولوارتي في القضية، فلن تجري المحاكمة قبل انتهاء ولايتها الرئاسية، تموز 2026، إلا إذا عُزلت من الرئاسة، كسلفها. احتمال ليس مستبعداً، يفتح الباب أمام فوضى خطيرة وإساءة الحكم؛ ما يدخل البلاد في دوامة؛ فالغالبية اليمينية في كونغرس بيرو بدأت في إجراءات عزلها تدريجياً.
وفي محاولة استباقية، اعترفت بولوارتي بأنها تمتلك بالفعل “ساعات روليكس”، لكنها قالت إنها اشترتها بأموالها التي كسبتها منذ كانت شابة صغيرة، وأشارت إلى أنها لم تعرقل سير التحقيق، وأن موظفي قصر الرئاسة قدموا كل التسهيلات للمعاينة المطلوبة.
تسعى الحكومة البيروفية لوقف تصاعد الأحداث؛ بأمل أن تضع إفادات بولوارتي حداً لفضيحة الساعات؛ انتقد غوستافو أدريانزن رئيس وزراء بيرو المداهمات، قائلاً: “إن الضجيج السياسي حول نزاهة الرئيسة أمر خطير، ويؤثر على الاستثمارات وعلى استقرار البلد بأكمله”.
السمكة تفسد من رأسها
تمثل قصة صعود بولوارتي إلى سدة الحكم في بيرو، وإمكانية إزاحتها منها، أمراً معتاداً في دول العالم الثالث، حيث يسقط زعماء يُعتقد في نزاهتهم إلى حضيض الفساد، بكل تأثيراته الكارثية على رأس السلطة نفسه ودوائر المحيطين به وعلى المجتمع الذي يتحول رويداً رويداً إلى أقلية طفيلية فاسدة وأكثرية منهوبة الحقوق ممصوصة الدماء. تبلغ بولوارتي 61 عاماً، نشأت في كنف عائلة من الطبقة المتوسطة، قبل أن تنتقل إلى العاصمة ليما، حيث تخرّجت في كلية الحقوق بجامعة سان ماركوس. عملت محامية ثم انخرطت في النشاط السياسي، ضمن التنظيمات اليسارية، ثم صارت نائبة الرئيس فى عهد بيدرو كاستيو فى تموز 2021، ثم تولت الرئاسة في كانون الأول 2022، بعد عزل كاستيو إثر محاولته حل البرلمان، ودعوته إلى إجراء انتخابات مبكرة، دون تنسيق مع معاونيه وأعضاء حكومته، أو حتى الأجهزة الأمنية. بالنتيجة، تخلّت هذه الأجهزة عنه لحظة عزله في البرلمان – الذي تجاهل قرار حلّه – واقتادته إلى السجن؛ حيث يوجد حالياً رهن المحاكمة، وسط احتجاجات دامية أسفرت عن مقتل 49 شخصاً.
اللافت حقاً هو طبيعة العلاقة بين كاستيو وبولوارتي، فقد حرص الرئيس على مناداة نائبته بلقب “الدكتورة”؛ احتراماً لسجلها الأكاديمي، وبعدما تولّت بولوارتي منصبه، بعد إدخاله السجن، بات يصف خليفته بـ”الخائنة التي استولت على الحكم”، و”الدمية بيد الأحزاب والقوى اليمينية”، واتهمها بالتواطؤ مع الذين صوتوا لإزاحته.
ليست الاضطرابات السياسية جديدة فى بيرو، توالى على حكمها 6 رؤساء خلال السنوات الخمس الماضية؛ لذلك يرى المتابعون أن توجيه تهمة الفساد واستغلال النفوذ لأول امرأة تتولى حكم البلاد يفاقم الأزمة السياسية الناجمة في بيرو، وقالوا إنها دليل على استفحال الفساد في طبقات المجتمع، فالسمكة تفسد من رأسها؛ وفي هذه الحالة يصبح انتشار الفساد حتمياً كالمرض المعدي من رأس السلطة نزولاً إلى كافة أعضاء الجسم السياسي والإداري للدولة. فالنظام الفاسد لا يمكن له أن يحيط نفسه بأشخاص ليسوا فاسدين، وهؤلاء بدورهم لا بد من أن يحيطوا أنفسهم بدائرة من المعاونين الفاسدين… وبهذه الطريقة تماماً تتوالى دوائر الفساد وتتشعب وصولاً إلى أدنى المراتب الإدارية، فيضطر الناس للتعامل معها وتتحول تدريجياً بالتالي إلى ثقافة شعب.
2،5 تريليون دولار
وبداعي الإنصاف فإن قيام أجهزة القضاء والشرطة بالتحقيق مع رئيسة بيرو، على خلفية حيازتها ساعات روليكس لا يتعدى ثمنها 200 ألف دولار، وقيام الإعلام المحلي بتغطية الحدث بكل حرية والتشكيك في ذمة “السيدة الرئيسة”، كل ذلك يقول إننا أمام مجتمع قادر على مواجهة الأخطاء وتصويبها والتصدي للفساد بكل صوره. هذا دليل عافية وسلامة، لا مرض واهتراء، لأنه يعني أن القضاء في بيرو مستقل عن السلطة التنفيذية؛ يمتلك صلاحية مساءلة أعلى رأس فيها، ومعاملتها كأي مواطن، ويفرض عليها ما يمليه القانون بغض النظر عن مركزها السياسي.
ولأنه بضدها تتميز الأشياء، فإنك لو أمعنت النظر في حوادث الفساد المستشري في طبقات السلطة الحاكمة في دول العالم الثالث، ومن بينها دول عربية، تشهد وقائع فساد مروعة بعشرات أو مئات مليارات الدولارات، يجعل كثيرين من أبناء البلدان العربية والإفريقية يتطلعون بحسد إلى الكيفية التي تعالج بها السلطات ويتابع بها الشعب في بيرو قضية فساد الرئيسة. دأبت بيرو على التخلص من الحكام الديكتاتوريين الذين حكموها منذ الستينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي. أدركت النخبة السياسية خطورة الحكم الدكتاتوري؛ فشرعوا في بناء الديموقراطية؛ حققت بيرو نمواً اقتصادياً وتراجعت مستويات الفقر، وأصبحت من أسرع دول أميركا اللاتينية نمواً.
تعرّف “منظمة الشفافية الدولية” الفساد بأنه “إساءة استخدام السلطة العامة من أجل تحصيل مكاسب شخصية”، والحقيقة أنه لا مجتمع يخلو من الفساد، المهم هو آليات مواجهته والتعامل معه بشفافية ونزاهة وحسم، وهذا لا يتوافر في مجتمعات الاستبداد والديكتاتورية، فلا بد من وجود دولة القانون والأجهزة المحترفة والقضاء المستقل والإعلام الحر والرقابة الشعبية. نتذكر هنا، على سبيل المثال، إجبار بارك غون هي رئيسة كوريا الجنوبية على التنحي من منصبها بسبب قضايا فساد، عام 2017، وسبقها كثيرون من الزعماء الذين أطاحهم الفساد وزج ببعضهم في السجون. في عام 2015، قدم رئيس غواتيملا أوتو بيريز استقالته من منصبه، بعدما صدرت بحقه مذكرة توقيف، تتهمه بقيادة نظام فساد داخل جهاز الجمارك، كما أن شبهة الفساد التي لاحقت قادة عرباً، في دول الربيع العربي، أدت إلى احتجاجات أطاحت بهم من الحكم. إن جعبة الفساد عامرة على المستوى الدولي، مثل قضية “أوراق بنما”، بشأن تورط مقربين من بعض الرؤساء بالتهرب الضريبي.
ذات مرة صرح الأمين العام للأمم المتحدة بأن كلفة الفساد العالمي قد تصل إلى تريليونين ونصف تريليون دولار سنوياً، أو ما يعادل خمسة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ما يزيد عشرات الأضعاف عن قيمة المساعدات الإنسانية التي يتم تقديمها سنوياً لمئات الملايين من الفقراء والمهجرين والمشردين حول العالم.
يقول المهاتما غاندي: “يوجد في هذا العالم ما يكفي لسد كل حاجات الإنسان… ولكن ليس ما يكفي لإشباع جشعه”!