المفكر المغربي سعيد ناشيد يكتب : فن تكسير الملل (1)

رهاني الأول في الكتابة عن الملل، ألا يكون ما أكتبه مملا لأي كان، إذا نجحت في هذا المسعى فقد نجحت في الأساس.

بل، لعلي أطمع في الحسنيين: أن تكون الأوراق مسلية بقدر ما تكون ملهمة ومفيدة، لأجل ذلك سأسرد حكايات من وحي الحياة البسيطة للبسطاء، مشفوعة بالمفاهيم الأساسية لتاريخ الفلسفة، وذلك على سبيل الفهم والتفاهم.

وهاكم حكاية البدء ابتداء:

في منطقة سوس، جنوب المغرب، حكى لي رجل مسن ما جرى له قبل أزيد من سبعين عاما:

كان عمره نحو عشر سنوات حين كان صاعدا من سفح الجبل إلى البيت صحبة والده الذي يحمل سلة الجوز. في منتصف الطريق طرح الابن على والده السؤال: هل ستمضي حياتك كلها في هذا الجبل يا أبي، تصعد في المساء وتنزل في الصباح، تصعد وتنزل، تصعد وتنزل، تصعد وتنزل، وظل يكررها كأسطوانة مشروخة؟! إلى أن تسمّر الأب في مكانه، ثم جاء رد فعله مفاجئا، فقد طوّح بالسلة نحو منحدر الوادي، وتشتتت حبات الجوز متدحرجة عبر مسالك الانحدار، ثم قدم للإبن بعض النقود، وطلب منه أن يسلمها لأمه ويعتني بها. ثم غاب إلى الأبد.

الموتى رحماء في غيابهم لأنهم لا يتركون للأحياء من أمل، ولا من أفق للانتظار، فيسهل نسيانهم بالتالي ولو بعد حين، لكن الراحلين الذين يتركون طيف الأمل هم الأشد وطأة على الروح، إذ يحرمون المنتظرين من رحمة اليأس. هكذا طال حزن الأم، كل طرقة باب تحيي فيها وخز الرجاء، إلى أن ماتت متعبة بالأمل. أما الإبن فقد ورث شجيرات جوز لم تعد تثمر كما كانت، ربما هو ملل الأشجار بدورها، طالما أنها لا تسافر.

ورث الابن أيضا عقدة ذنب غائرة نحو الوالد. لربما ما كان عليه أن يسأل! لربما كان عليه أن يترك والده مثل سيزيف، يحمل صخرته إلى الأعلى، ثم يهبط لإعادتها بعد أن تتدحرج، وقد يصير الأمر لعبة مسلية حتى وإن كانت مملة. ومن يدري؟ ربما يصير سيزيف سعيدا كما تصوره ألبير كامو، حين يتصالح مع قدره الممل.

غير أن سؤال الإبن كان أكبر من مجرد صوت صغير لطفل صغير في قرية نائية، فقد كان يمثل صوت ضمير الحياة نفسها، والذي يقول للإنسان: لا تفعل الشيء نفسه كل يوم، اختبر إمكانيات أخرى، تطلع إلى آفاق أخرى، “غامر أو غادر” كما تقول الحكمة الشعبية.

كانت الكلفة قاسية هذه المرة، وكان بالإمكان خفضها. فمن حسن حظنا أن الحياة تمنحنا إمكانيات كثيرة لتكسير الملل من غير أن نشتت الثمار، أو ليس بالضرورة. وهذا هو الدرس الأهم.

بواسطة
سعيد ناشيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock