المفكر المغربي سعيد ناشيد يكتب : فن تكسير الملل ( 5 )

ما أن يجلس الشاب على المقعد في انتظار أن يمر الوقت، حتى تجمح يداه إلى التخريب، فقد يخدش الطاولة التي أمامه بالمفتاح أو القلم، أو يمزق الورقة التي بين يديه إربا إربا بلا طائل، أو يفرك جبهته إلى أن تحمر، أو يلوي أصابعه إلى أن تتفرقع، أو يقضم أظافر أصابعه، أو يفقأ حبيبات على وجه، أو -لأننا في عصر الآيفون-قد يخرج مرآته السحرية من جيبه لإلهاء الذهن واليدين، بكل أنواع الإثارة، إلى حد الهوس المفضي إلى عودة الملل في أسوأ أحواله.

إلا أن هناك أوقاتا يحتاج فيها الذهن إلى التركيز بدل الإلهاء، ووجب خلالها لجم اليدين، من قبيل وضعهما على الخد أو تحت الذقن أثناء التفكير، تربيعهما أثناء الإنصات، إمساك الميكروفون أثناء الكلام، مداعبة حبات السبحة أثناء التخشع، وضع اليدين في الجيب أثناء المشي، بل المشي نفسه الذي يوصي به الفلاسفة للتأمل، يفيد في ضبط حركة اليدين على إيقاع المشي، لإتاحة فرصة التركيز الذهني.

أما عن سبحة الصلاة التي يراها البعض بدعة أخذها المسلمون عن المسيحيين الأرثوذوكس، وربما نقلها الجميع عن البوذيين والهندوس في الهند، فإنها تستمد حضورها العابر للأديان، من حاجة الإنسان إلى إشغال اليد أثناء صمت التخشع.

كان بليز بسكال دقيقا في ملاحظته: “كنت دائما أقول، شقاء الناس له سبب واحد، إنهم لا يعرفون كيف يمكثون داخل مساكنهم” (الخواطر). إن الذي يجعل الناس لا يمكثون في مساكنهم بسلام هو أنهم لا يعرفون إلى أين يوجهون تفكيرهم حين لا يفكرون!؟ والأدهى من ذلك أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون بأيديهم حين لا يعملون!؟

لذلك، قد نرى يدًا جامحة تداعب شفرة سكين، أو تفرك قداحة حارقة، أو تخدش حائطا جميلا، أو تتورط في جرائم يعاقب عليها القانون.

في العام الماضي، 2022، تناقلت وكالات الأنباء العالمية خبر قيام حارس أمن روسي بتخريب لوحة “الأشكال الثلاثة”، لآنا ليبورسكايا (اللوحة أدناه)، والتي تقدر قيمتها بأكثر من مليون دولار، حيث أحدث خدوشا بقلم حبر جاف، حين حاول أن يجعل للأشكال الثلاثة دوائر مثل العيون، وذلك كله بدافع من الملل كما قال.

لقد شهدت السنوات القليلة الماضية عشرات الجرائم بدافع من الملل، وفق مجمل الاعترافات والتحقيقات. لذلك، لا يبدو أن عصر الآيفون سيقضي على جذام الملل. بل كل ما في الأمر أن هوس الإثارة قد يعيد الملل في أسوأ أحواله.

بواسطة
المفكر المغربي سعيد ناشيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock