المفكر المغربي سعيد ناشيد يكتب : فن تكسير الملل (3 )

يحتاج العشاق إلى تعريض عشقهم للخطر بين الفينة والأخرى، فيما يشبه صعقات الإنعاش. كثيرون يفعلونها بوعي أو بدونه، كنوع من تدبير الرغبة. فإن الرغبة تنتفي بعد تحققها، ولا تنتعش إلّا تحت التهديد. قاعدة لا يعترف بها الشعراء لكن الفلاسفة يعرفونها.

في قرية صغيرة شمال المغرب، كانت سلمى أستاذة في مقتبل العمر، تعمل مع زوجها في المؤسسة نفسها، كانت مثالا للزوجة الخانعة الطيعة، لا تتحرك إلا رفقة زوجها وحين يشاء، أوكلت له أمرها في كل شيء، حركاتها، سكناتها، وحتى حسابها المصرفي الذي لم تعد تعرف عنه أي شيء. كانت تستمتع بذلك الخنوع مثل طفلة رضيعة. كان الحب يبدو آمنا من كل المخاطر، إلا أن ذلك الأمان كان هو الخطر عينه! وهو ما لم تدركه سلمى إلا بعد فوات الأوان. ملكته نفسها كلها، لكنها قتلت فيه الرغبة في المقابل. وبعد أن ملّ منها ثم ملّ من المغامرات المتقلبة مع غيرها، رغب في تجديد الاستقرار، فاستغل ثغرات القانون المغربي ليتزوج امرأة تمنحه استقرارا غير ممل، بمعنى غير آمن. ذلك هو الشرط الذي توفر في الزوجة الثانية، ولو إلى حين.

كانت الزوجة الثانية مغنية شعبية بأداء متواضع. حاول أن يتملكها بدورها لكن ههيات، فقد أتقنت اللعبة، وحافظت على مسافة الخطر.

في رواية (الملل) لألبرتو مورافيا، هجر دينو أمه، وعالم الأغنياء الممل، لكي يعيش في استوديو بسيط. كان يمارس هوايته المفضلة، الرسم، لكن بلا شغف، فكان الملل يلاحقه مثل ظله أينما حل، إلى أن وقع في أحضان فتاة تافهة على أمل تكسير الملل، لكنه لم ينج من الملل إلا بعد أن ظهر شخص آخر في حياة عشيقته فشعر بالخطر، وخرج من عذاب الملل إلى عذاب الألم.

أكثر من فهمها هو شوبنهاور: الحياة مثل رقاص ساعة يتأرجح بين الملل والألم. نرغب في شيء، نتألم لغيابه، ونتوقع أن يمنحنا الحصول عليه السعادة المطلقة، ثم لا يمضي وقت طويل عن الحصول عليه حتى ندرك بأن سعادتنا لم تكن كما توقعنا، فينتابنا الملل، ونحتاج بالتالي إلى رغبة أخرى، وهكذا دواليك.

في مجال العلاقات العاطفية قد يفضي تغيير موضوع الرغبة يوميا إلى عواقب كارثية. بعض المجتمعات حلت مشكلة الرجل جزئيا عبر التعدد، وملك اليمين، لكن ماذا عن المرأة؟ ماذا عن الأستاذة سلمى؟ فوق ذلك كله ماذا عن معضلة الرغبة والتي إن لم يتم ترويضها فستبقى تدور بنا في الفراغ، من ملل إلى ملل، مثل حياة العاطلين الأثرياء؟!

قدَر الرغبة المتحققة أن تنتفي وتنتهي إلى الملل. بيد أن تعريضها لجرعة من التهديد ومقدار من الخطر، قد ينعشها مجددا، وعند الضرورة. على أن تكون الجرعة مناسبة. وتقدير ذلك فن ومهارة.

قد تبدو اللعبة غير آمنة، هذا صحيح، لكن لا ننس عبارة ألان باديو في (مديح الحب): لا وجود لحب آمن.

ذلك مما يعرفه المتصوفة أيضا، وهم العارفون بأسرار الوجدان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock