الكاتب المغربي سعيد يقطين يكتب : ” المونديال القطري … الفرح العربي “
انتهى العرس الكروي، وشأنه شأن الأعراس العادية التي تجري في الحياة اليومية لا يمكنه إلا أن تواكبه الأحداث والقصص والتعليقات من كل الجهات، والقراءات المختلفة. العرس الكروي قصة مثل غيره من القصص. ودون اتخاذ العبرة منها لا يمكننا الاستفادة من دروسها البليغة، وحكمها الفصيحة.
لست أدري لماذا حضرتني ثلاثة أقوال من الثقافة الشعبية المغربية متصلة بهذا العرس. أما القولان الأولان فمثلان يتكاملان ويبينان صعوبة القيام بأي عرس بسبب ما يلزمه من مؤونة وتكاليف غير عادية، ومعاناة في إعداد شروط نجاحه، لخلق ظروف يسود فيها الفرح والانبساط. يقول أولهما: ” العرس هرس” والثاني: “من قال العرس سهل، فليكتف بجلب مائه”. أما القول الثالث، فحبة من حبات العيطة تقول: “كتّفوا المفلّس/ حتى يجوز العرس “.
في البادية يحضر بعضهم إلى العرس، وإن لم يكن مدعواً، وفي جعبته نية واحدة: إفساد أجواء العرس باختلاق الصراعات والفوضى. تلخص هذه الأقوال حقيقتين اثنتين: تسجيل صعوبة الأداء من أجل الإنجاز الحسن، من جهة. ومواجهة المتربصين به الذين يعملون من أجل تكدير الفرحة، ونشر الهلع.
نجحت قطر في الإعداد الاستثنائي للحفل الكروي، ووفرت كل مستلزمات النجاح والتميز. فكانت نسخة سنة 2022 كما سجل ذلك الحاضرون والمراقبون والمتتبعون مختلفة عن غيرها من اللقاءات، وعلى المستويات كافة، فالبنيات التحتية كانت في المستوى العالمي المطلوب، وحفاوة الكرم والخصوصية الثقافية العربية خلقت أجواء ما عهدتها الأجواء الأخرى التي احتضنت مباريات كأس العالم. ولما كان هذا العرس استثنائيا، فلا يمكنه إلا أن يثير حفيظة المتربصين بالإفشال حسدا من عند أنفسهم بعدما تبين لهم العمل الجاد من أجل إنجاح هذه التظاهرة الرياضية. وفعلا لا يمكننا سوى وصف هذه النسخة القطرية إلا بكلمة واحدة: الفرح العربي الذي ساهمت فيه قطر بتنظيم محكم، والمغرب برفعه راية العرب والأفارقة.
كان تذكري أقوال المغاربة عن العرس موازيا لقول عربي عن الفتنة النائمة، ويدعو على من أيقظها. الفتنة النائمة اختصار واختزال لقانون الحياة العامة في أي مجتمع، لأنه مبني على الصراع الآدمي. هذا الصراع ليس طبقيا فقط، إنه يشمل مختلف فئات أي مجتمع، فأي فرد يدخل في صراع مع ذاته، وأسرته، وقبيلته، ومع جيرانه، ومع غيره ممن تربطهم به علاقة ما. أليس الآخرون هم الجحيم؟ لكن هذا الصراع قد يطفو على السطح، أحيانا، ويترسب في القاع أحيانا أخرى. إنه يعكس الدورة الطبيعية للحياة: نوم ويقظة. والأحداث الكبرى، والمتميزة في الحياة مثل العرس، أو النجاح، أو الحروب، وما شابه، لا يمكنها إلا أن توقظ ما في الكوامن من أفراح أو أحقاد تشكلت على مرّ الزمن. أبان تنظيمُ قطر العربية أول تظاهرة رياضية عالمية أن الغرب غرب، والشرق شرق. والغرب عامة، وأستثني العقلاء فيه، لا يريد أن يرى العربي إلا في مرتبة دون منزلته، وعليه أن يكون خاضعا لمشيئته، مطيعا لأوامره. ومتى حاول العربي أن يثبت حضوره عمل كل ما في وسعه لإثبات العكس. كانت العنصرية بادية، والكراهية متفشية في الإعلام، والتصرفات المتعجرفة طاغية، وما الهجومات التي تعرضت لها قطر، قبيل وأثناء التنظيم سوى تعبير صارخ عن ذلك. هذا من جهة. من جهة أخرى كان للفرح العربي الذي أشاعه ما حققته منجزات المنتخب المغربي دورها في تأجيج رواسب الأحقاد، وإيقاظ الضغائن الكامنة ضد كل ما هو عربي. كما كان له دور مهم في إبراز أن وحدة الشعوب العربية قائمة، رغم كل الإكراهات التي تفرضها الأنظمة، أو يسعى الغرب إلى إدامتها بخلق مسوغات بقاء هذه الأمة على هامش العصر، برعاية ودعم من يسيرون في ركبه، وخدمة مطالبه ومصالحه في المنطقة العربية، عبر نشر الفرقة بين الشعوب، وتقسيم الأوطان.
تابعت مثل غيري هذا الحدث الكبير… كان الكل منخرطا ليس في متابعة أجواء مقابلات في كرة القدم، لكن في التعبير عما يدل على رغائبه ومطامحه. كانت الكرة تدور في الميدان، وكرات الأحاسيس تدور في النفوس والعقول، مستحضرة تواريخ الهزات والتقلبات، وكانت المادة التي انتشرت دالة دلالة قوية على ما وصل إليه الإنسان من تطور في عصر التكنولوجيا، كل الوسائل التواصلية عبرت عما في القلوب من فرح وأحزان، وانفعالات وأهواء. تم استدعاء تواريخ الحروب، ورموز الدول، وبرزت التناقضات، والأحلاف.
بكلمة عرّت الكرة المستديرة حقيقة الإنسان المعاصر، وأقسى درجات عنفه، و أنانيته. أيقظت المشاعر النائمة، وحركت الأحقاد القديمة والجديدة. لماذا لا تكون الكرة فرصة لتوحيد المشاعر، ومناسبة لممارسة كل الادعاءات المتصلة بالإنسان كما يروج لها الغرب؟ إن ما يروج له الغرب ملهاة لإدامة خضوع واستعباد غير الغربيين لقوته وهيمنته. وكانت قطر منظمة، والمغرب لاعبة، تبرزان أن الأوان قد آن لنقول للغرب: كفى! نريد أن نفرح، ونديم الفرح. كما أننا قادرون على تقديم المثال على أن في إمكان الشعوب المستضعفة أن يكون لها، بإرادتها، ووحدتها وتضامنها، موقع في العالم المعاصر، ووقت للفرح الدائم.