أحمد المرزوقي يكتب : تحولات في القيم الإنسانية بعد مونديال قطر 2022

ولى المونديال بكل أحداثه الكبيرة والصغيرة، وخلف وراءه في أذهان العرب والأفارقة و دول العالم الثالث عموما نشوة عارمة كنشوة من يستيقظ بعد تخدير طويل من عملية جراحية خطيرة على بسمة عريضة مرسومة على وجه جراح ماهر يهمس بلطف: هنيئا لك، لقد نجحت العملية ومرت بسلام والحمد لله.

فعلا، مرت العملية كما تمنى لها المنظمون أن تمر، بل فاقت في نجاحها كل توقعاتهم المتفائلة، وفجرت في قلوب المستضعفين في الأرض سدودا غامرة من فرحة عارمة مرت كالسيل العرم لتكنس في طريقها جبال همومهم الداكنة وكثبان عقدهم المستعصية، فناموا شهرا كاملا على بهجة واستفاقوا على بهجة، وغنوا في سلم وطربوا في سلام، وصاحوا وانتشوا وهللوا وكبروا وحمدوا الله وسجدوا له في خشوع، وسالت من مآقيهم سواقي من دموع، ساخنة مرة وباردة مرات أخرى، تشكلت من اختلاجات جوانحهم ونبضات قلوبهم وارتعاشات أرواحهم بفعل أحاسيس ملتهبة كهربت بالنشوة كل ذرة في كيانهم حتى سكرت سكرتهم فداخوا وترنحوا إلى أن أطلق حكم مباراة النهاية صافرته الأخيرة.

وبعدها نزلت هذه الجموع النشوانة من عليائها السامقة كما تنزل الطيور التي جربت التحليق مرة واحدة في حياتها لتعود بعد أن نتف الريح ريشها إلى أرض واقعها المرير، غير أنها وجدت في هذا الواقع الذي رجعت إليه على مرارته حلاوة عجيبة أحيت في أعماقها أرضا ظلت لقرون عديدة وأجيال متعاقبة تعتقد أنها أرض موات. أرض نبت فيها ربيع الأمل في النفوس وفي الأمة وفي المستقبل.

ذلك أن تلك الكرة الصغيرة المستديرة أصبحت في ظرف شهر من الزمن كرة حب مملوءة بالتفاؤل، تقفز من قلب إلى قلب لتحرك فيه السواكن وتبث فيه الأماني العِذاب في انتظار يوم سعيد تلملم فيه الأمة العربية والإسلامية قوتها لتقف وقفة رجل واحد كأسد جسور خدره سهم صياد، ثم ما لبث أن استقام واقفا على قوائمه وهو يزأر زئيرا عاليا بعدما طار خدره ليخبر البرية بأنه لم يمت وأنه ما زال السيد الذي ينبغي أن يُهاب.

نحن قادرون… هذا هو عنوان المرحلة.. فكما أن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بنى حملته الانتخابية على جملة صغيرة “نحن نستطيع”، وكان له ما أراد، فنحن بدورنا نرددها ليكون لنا ما نريد.

فهذه الصحوة المفاجئة التي جعلتنا نشعر بفضل الكرة أننا نعيش كأمة واحدة بقلب واحد ونتنفس برئة واحدة، قد تكون هي الشرارة الأولى التي ستنطلق بنا حثيثا نحو استرجاع مجدنا الغابر، سيما وأن القضية الفلسطينية التي أراد لها أعداء الأمة أن تُقبر، كانت هي الدينامو الذي حرك كل المشاعر والتفّت حوله جميع الأرواح.

وليس من شاهد على ذلك أحسن من بعض أصحاب الاتجاه اليميني في الغرب الذين أنطقهم الله الذي أنطق كل شيء، فشهدوا على أنفسهم في منابر عدة ببداية تدحرجهم في منزلقات أجراف هارية بعدما اشتبهت عليهم الأشياء ففقدوا البوصلة وانساقوا وراء الدفاع عن قيم هابطة ما أنزل الله بها من سلطان.

فهذا صحافي ألماني يكتب بمرارة ما مفاده أن “المونديال قد مر بدون صدامات ولا عربدات في الشوارع، ولا مواجهات دامية بين المشجعين ولا أدنى مناوشات. أذهلتنا قطر بتنظيمها المحكم، وأذهلنا الفريق المغربي بنتائجه المبهرة التي ضخت في دماء العرب والأفارقة والمسلمين عموما حماسا لم نشهد له مثيلا أبدا، سيما بعد رفعهم لراية فلسطين، وخرجنا نحن الذين فزنا بكأس العالم أربع مرات وجئنا هذه المرة لمناصرة المثليين والشواذ من الباب الصغير، حيث عدنا كما تعود الفرق الصغيرة المغمورة إلى بلدها بعد الاكتفاء فقط بشرف المشاركة مع الكبار. هل من شك في أننا بدأنا في الانحدار أكثر فأكثر؟

يعز علي أن أجيب بالنفي. إنهم رغم كل شيء ما زالوا متشبثين بقيمهم، أما نحن فقد فقدناها منذ زمن طويل. هم أعطونا دروسا في القيم الإنسانية النبيلة التي لن يعمى عنها إلا كل مكابر عنيد. ويكفي أن نذكر واحدة منها لتغنينا عن كل تعليق.

فقد رأينا بر الوالدين والاعتراف بفضلهم مجسدا في اللاعبين المغاربة حين مسارعتهم إلى عناق أمهاتهم بعد نهاية كل مقابلة، ونرى نحن جحودنا ونكراننا لهم حين نرميهم بلا رحمة كالمتلاشيات في دور العجزة ليموتوا ضحية الوحدة والوحشة بين جدران أربع…”.

هذا الانحدار الذي عبر عنه بكل أسى ذاك الصحافي الألماني، جسدته تصريحات غريبة لرمز اليمين المتطرف في فرنسا السياسي إيريك زمور، الذي طالما يؤكد على أصله الجزائري والعربي والإفريقي، حين انتقد بشدة احتفال الجالية العربية في فرنسا بفوز المنتخب المغربي على البرتغال، مطالبا السلطات الفرنسية بمنعها، في سجال حول هوية الفرنسي وطبيعتها.

وهو ما يعيد إلى الذاكرة نقاشا بين هذا الزمور، المعروف بكراهيته للعرب، وبين الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري، حضره ما يزيد عن 4000 متفرج أدوا ما بين 20 و40 يورو لكل واحد منهم رغبة في الاستمتاع بهذا النقاش، حيث قال زمور فيما قاله من كلام يحمل عنصرية واضحة نحو العرب والأفارقة: “أخالفك الرأي يا ميشال، نحن لسنا في عهد هوبس، وإنما في عهد ابن خلدون، المؤرخ الذي يقال عنه إنه ربما اخترع قليلا أو كثيرا من علم الاجتماع في القرن الرابع عشر، والذي تعجبني نظريته حول قيام الامبراطوريات وانهيارها، إذ يقول بأن المجتمعات تنقسم إلى قسمين، مجتمع الحواضر ومجتمع الرحل، فالمجتمع الأول يشتغل ويؤدي الضرائب ويساهم في الثروة، أما المجتمع الثاني فهو يعيش على هامش المجتمع الأول حتى إذا ما رأى منه ضعفا ووهنا بسبب عيشه في البذخ والنعيم، انقض عليه ليسرقه وليعيث فيه فسادا… إن هذا ما بدأنا نعيشه بالذات بعد أن أصبح نجمنا في الأفول”.

بواسطة
أحمد المرزوقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock